ثقافة الاستهلاك في رمضان |
من أهداف رمضان أنه يعلمنا الاقتصاد والتوسط في الإنفاق والاستهلاك، ولَو طبقنا هذا المبدأ لكان درسا عظيما، سنجد أثره الكبير علينا جميعا؛ فالمترف أبطرته النعمة وسعة العيش، وألهته عن طاعة الله، فتراه حريصاً على زيادة أحواله وعوائده، ساعيا إلى بلوغ الغاية في حاجات الذات الحسية، من مأكل، ومشرب، ومسكن، ومركب.
ولقد نهى الإسلام عن الترف، وحذر من تعلُّق القلب به، ومن غلو الإنسان في الانغماس في متع الحياة وملذاتها، وحث على تركه والانصراف عنه إلى ما هو خير في الدارين، عن عمرو بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» (رواه مسلم 4/2274)، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة» (رواه ابن ماجة وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2/830).
إنَّ دعوة الإسلام إلى ذم الترف والتحذير منه، لا تعني تحريم ما أحل الله من النعم والطيبات، وإنما المراد الاقتصاد في الإنفاق وعدم تعلق القلب بها والركون اليه، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي» (رواه مسلم 4/2087). ومع الأسف الشديد تجد بعضنا في رمضان غير مبالٍ بصحة جسده، مفرِطاً في تناول الطعام، والشراب، وتوفير متطلبات النفس مما لذ وطاب، عن مِقدام بن معدي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن بحسْب ابن آدم أُكُلات يُقِمْنَ صلبه؛ فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفَسِه»(رواه أحمد والنسائي وغيرهما وصححه الألباني في الإرواء 1938).
إن في التأمل في تبعات الترف في الآخرة، واستشعار الوقوف بين يدي الله - تعالى-والأسئلة التي ستوجه إلى العبد في ذلك الموقف عن النعيم الذي يتقلب بين جنباته في هذه الدنيا من أكبر الدوافع على ترك الترفه والتنعم؛ ولهذا ذكّر النبي[ أمته بذلك فقال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل، عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (رواه الترمذي).
وعلى العاقل إدامة النظر في حال أهل الترف قديماً وحديثاً، والتأمل في أوضاعهم وما يعانيه غالبهم من غفلة، وقلة طاعة، وقسوة قلب، وكثرة هم، وتشتت فكر، فضلا عن الفجيعة من تقلب الأحوال، والخوف من انصرام ما هم عليه، من نعيم وملذات.
وإن نظر المترف في أحوال إخوانه المسلمين والتأمل فيما يعانون من فقر وجهل ومرض، وما يتعرضون له من حروب، يجعله يدرك أن الأنفع له تقديم ما يفيض عن حاجته إلى إخوانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه».
ولا شك أن في هدي السلف وكيفية تعاملهم مع متع الحياة وملذاتها، للأخذ منهم والسير على منوالهم، علاجاً ناجعاً وبلسماً شافياً لهذه الآفة؛ حيث كان من هديهم تربية النفس على عدم تحقيق كل ما تشتهيه، رغم القدرة على تحقيق مطلوبها، قال رجل لابن عمر - رضي الله عنهما-: ألا أجيئك بجوارش، قال: وأي شيء هو؟ قال: شيء يهضم الطعام إذا أكلته، قال: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وليس ذاك أني لا أقدر عليه، ولكن أدركت أقواماً يجوعون أكثر مما يشبعون (رواه الإمام أحمد في الزهد 189)، وفي رواية: ولكن عهدت أقواماً يجوعون مرة ويشبعون مرة. وسئل الحسن عن الرجل يبتاع الطعام ويبتاع اللحم، هل عليه في ذلك؟ فقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كفى سرفاً ألا تشتهي شيئاً إلا أكلته» (أورده ابن أبي الدنيا في كتاب إصلاح المال 106).
كذلك كان من هديهم التوسط في الإنفاق على النفس والأهل، قال عبدالملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز: كيف وما يغنيك؟ قال: الحسنة بين السيئتين، قال الله - تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67)، وقال الحسن: إن من علامة المؤمن: ألا يقصر به بيته، ولا يبخل ولا يبذر، ولا يسرف ولا يقتر. وعن سفيان قال: «كانوا يكرهون الشهرتين: الثياب الجياد التي يشتهر فيها, ويرفع الناس فيها أبصارهم، والثياب الرديئة التي يُحتقر فيها ويُستَذَل دينه» (ذكره ابن أبي الدنيا في إصلاح المال 100).
لا تقرأ وترحل .. شارك قول رأيك
0 تعليقات: