{وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا.. للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة}. النحل: 30.
إن
هذه الآية الكريمة من سورة النحل تحكي مشهدا من مشاهد المؤمنين يوم
القيامة عندما تسألهم الملائكة عما يمكن أن نعتبره "تقييمهم" لما قد لمسوه
وعاشوه من أطراف حكمة الله تعالى في هذه الحياة الدنيا.
وإننا
كثيراً ما نتساءل ونحن نقطع المراحل في حياتنا عن سر الرضا بقدر الله
تعالى والتسليم بحكمه في مقاديره وكذلك سر الشكر والامتنان له عز وجل فيما
يتعلق بتدابيره وابتلاءاته التي يقضي بها على عباده، ونحاول أن نبحث صادقين
عن معاني الرضا والشكر ونغفل كثيراً عن أن الله سبحانه وتعالى قد أودع في
كتابه العزيز إشارات خفية ورسائل ضمنية ذات مغزى لأولي البصائر لكي يصلوا
من خلالها إلى إجابات شافية.
وهذه
الآية الباهرة في سورة النحل إنما تعطينا إشارة لطيفة للغاية عن كيفية
رؤية المؤمنين في الدنيا لأقدار الله تعالى وكيفية تعاملهم وتعاطيهم مع
البلاءات والمحن والمصائب وشدائد التي قدرها عليهم ربهم عز وجل البر الرحيم
في حياتهم الدنيا لكي يعلم الصادقين منهم ويعلم الكاذبين وهو بكل شيء
عليم.
إن
الله عز وجل يخبرنا أن المتقين يوم القيامة سيكون تقييمهم لما لاقوه من
أحزان ومخاوف وآلام في هذه الدنيا تقييماً ذا نكهة خاصة ومذاق متفرد لا
يشاركهم فيه أحد من البشر، فإنهم وبعد أن قطعوا طريق الحياة وفاضت أرواحهم
إلى بارئها وأتوا يوم القيامة وتلقوا السؤال الحاسم "ماذا أنزل ربكم"
أدركوا أن هذا السؤال لا يقف عند حدود الوحي والرسالات والدين الذي أنزله
الله وإنما هو أشمل من ذلك فالسؤال عما أنزله الله تعالى في الدنيا من
أقدار وما قضاه من تدابير وما حكم به من أحكام وما ساقه من أضرار ومنافع في
كل يوم بل في كل ساعة عاشها هؤلاء المؤمنون في الدنيا.
وجاءت
إجابتهم صافية شفافة واثقة موحية فهم يرون أن ما أنزله ربهم في الدنيا على
مستواهم الشخصي كان "خيراً" إنه الخير المطلق التام المتدفق الذي يتبارك
لأنه من لدن من تباركت أسماؤه وعز ثناؤه وتقدست صفاته، إنه الخير الذي لا
يصل إليه شر ولا يناله نقص ولا يعتريه باطل واستخدم القرآن الكريم لفظة
"الخير" في إجابة المتقين على هذا السؤال ولكنها نكرة حيث قالوا "خيرا"
لتفيد العموم والشمول فإنهم عندما يسترجعون بذاكرتهم ما مرّ بهم من أهوال
وما عايشوه من بلاءات ومحن وصعاب لا يستطيعون إلا أن يروا في شريط الذكريات
إلا خيراً منزلاً من ربهم، واثقين مؤكدين أن الذين أحسنوا في الدنيا لهم
حسنة وأن دار الآخرة خير للذين اتقوا وكانوا على ربهم يتوكلون.
وهنا
يأتي دورنا نحن لنلتقط الرسالة ونتدبر الإشارة ونقف طويلاً بتعمق أمام هذه
اللفتة، فإذا أردنا صادقين أن نكون من المتقين يوم القيامة لنفوز برضا
الله تعالى وجنته ما أحوجنا أن نرى من الآن وبدون تردد أو تلكؤ أن كل ما
ينزله ربنا "خيراً" وإنها الآن ونحن في خضم المعركة وفي أوج الفتنة وفي
صميم المحنة لن تكون مجرد كلمة ولن تكون حتى مجرد شعور عابر ينساب في
ضمائرنا في لحظة الإيمان الزائد أو أوقات الخشوع المتقلب وإنما يجب أن نرى
هذا "الخير" رؤية البصير المملتك للحجج والأسانيد والبراهين.
فلم
يعد المطلوب الآن أن نرى أقدار الله تعالى ومصائبه وبلاءاته مجرد أفعال
تنبع من حكمة الحكيم الخبير وإنما حان الوقت لكي نعرف يقيناً أننا ولولا
هذه الابتلاءات والمصائب والشدائد ما كان لنا أن نعرف ربنا فضلاً عن أن
نحبه ونتضرع إليه ونقترب منه اقتراب المضطرين الفزعين الفارين فراراً لا
رجعة فيه، إننا إذا أدركنا يقيناً أن ما أنزل ربنا "خيراً" لما ترددنا لحظة
في أن نختار أقداره وتدابيره أن تمضي بنا وتتحقق في واقعنا وإن كان لنا
الاختيار وإن امتلكنا نحن زمام القرار.
باختصار
فإننا وحتى نكون من الذين سيقولون يوم القيامة أن ربهم أنزل "خيرا" في
الدنيا لا سبيل أمامنا سوى أن نجعل هدفنا الأوحد هو التسليم واليقين بأننا
ولو قدر لنا أن نعود بالزمن قبل وقوع أي مصيبة أو بلاء أو كرب أو محنة
وأعطينا حق الاختيار في أن تقع هذه المصيبة أو لا تقع, أننا في هذه الحالة
سنختار وقوعها بدون تردد لأن وقوعها كان قمة الخير ورأس العطاء ونهر المحبة
والودّ من الودود المجيد سبحانه وتعالى، وعندئذ فقط نكون بالفعل قد ملأنا
قلوبنا باليقين في أن كل ما يقدره علينا هو الخير المحض المطلق، والجائزة
المباشرة لهذا السعي هو أننا سنكمل بقية أعمارنا في هذه الدنيا ونحن نستقبل
كل الأقدار ونتعايش معها لحظة بلحظة من منطلق أنها "الخير" وأننا بالفعل
لا نبغي عنها بديلاً.
لا تقرأ وترحل .. شارك قول رأيك
0 تعليقات: